في خطوةٍ لم يتضح بعد إذا ما كانت ستؤدي إلى مزيدٍ من التأزم أو الانفراج على الساحة اللبنانية، قدم رئيس الحكومة اللبنانية "سعد الحريري" في 29 أكتوبر 2019 استقالة حكومته بعد 13 يومًا من الاحتجاجات التي تصاعدت في لبنان، وهي الخطوة التي اعترض عليها بعض حلفائه في الحكومة، مشيرين إلى أنهم لم يتم التنسيق معهم حولها، فيما أعلن "الحريري" أن هدفه من هذه الاستقالة تهدئة الأوضاع في لبنان بعد الوصول إلى حائط مسدود.
أسباب الاستقالة:
على الرغم من اتفاق المكوِّنات الرئيسية للحكومة على الورقة الإصلاحية في 21 أكتوبر قبل انتهاء مهلة الـــ72 ساعة المحددة من قبل رئيس الحكومة "سعد الحريري" للاستقالة؛ إلا أن التباين لاحقًا حول ضرورة استبعاد بعض السياسيين لتهدئة الشارع عَقّد من فعاليتها، فبعد أن رحب رئيس الحكومة بدعوة رئيس الجمهورية "ميشال عون" "بإعادة النظر بالواقع الحكومي الحالي" في 24 أكتوبر، عاد واصطدم بتمسك الرئيس "عون" بوزير الخارجية "جبران باسيل" المرفوض بقوة من الشارع.
وفي هذا السياق، تداولت بعض الصحف أنباء أن "باسيل" استطاع إقناع الرئيس "عون" بأنه خط الدفاع الأول عنه، وبأن استبعاده يعني تسهيل استهداف العهد فريق رئيس الجمهورية، كما أنّ محاولات "سعد الحريري" طرحَ حكومة جديدة مصغرة اصطدمت برفض أمين عام حزب الله "حسن نصرالله" الذي أعلن في 25 أكتوبر أن حزبه يرفض "إسقاط العهد، واستقالة الحكومة، وإجراء انتخابات مبكرة في ظل هذه الظروف".
يُضاف إلى هذا إبلاغ "سعد الحريري" لكافة الأطراف المعنية بأنه سيستقيل في حال "سقوط قطرة دم واحدة في الشارع" في إشارة إلى رفضه التعرض للمتظاهرين واللجوء إلى استخدام القوة لفتح الطرقات المغلقة من قبل المتظاهرين، مفضلًا اللجوء إلى الحوار معهم؛ إلا أن هذه التحذيرات تم تجاهلها، حيث قام بعض أنصار حركة أمل وحزب الله إلى التعرض للمتظاهرين بشكل عنيف في 25 أكتوبر في ساحة "رياض الصلح" وفي 29 أكتوبر على "جسر الرينغ"، لا سيما بعد أن حذر "حسن نصر الله" من أنّ "الاحتجاجات التي تجتاح أنحاء لبنان قد تدفع البلاد نحو الفوضى والانهيار والحرب الأهلية".
ردود الأفعال:
أثارت استقالة "الحريري" دهشة عدد من أعضاء التيار الوطني الحر لأنها حدثت دون تنسيق مع رئيس الجمهورية، فيما اعتبر رئيس البرلمان "نبيه بري" أن "الاستقالة لا تشكل حلًّا للأزمة، وإنما قد تعمقها"، وأعلن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي "وليد جنبلاط" "أنه لن يشارك في أي حكومة لا يترأسها الحريري"، فيما رحّب رئيس حزب القوات اللبنانية باستقالة "سعد الحريري" واعتبرها "تجاوبًا مع المطلب الشعبي العارم بذلك" داعيًا إلى "تشكيل حكومة جديدة من أخصائيين مستقلين تمامًا عن القوى السياسية".
ومن جانب آخر، دعا وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" إلى "الإسراع في تشكيل حكومة جديدة قادرة على بناء لبنان مستقر وآمن يستجيب لاحتياجات مواطنيه" وإلى "ضرورة وقف أي عنف أو أعمال استفزازية، وإلى ضمان حقوق المحتجين وسلامتهم". وقد حذر وزير الخارجية الألماني "هايكو ماس" من أن تؤدي استقالة "الحريري" إلى حدوث فراغ سياسي في لبنان، ودعا وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" المسئولين اللبنانيين إلى "بذل كل الجهود لضمان استقرار المؤسسات ووحدة لبنان"، وطالب الأمين العام لجامعة الدول العربية "أحمد أبو الغيط" القيادات اللبنانية إلى الشروع في "الإجراءات التي تتيح الخروج من الوضع المتأزم الحالي".
حسابات متداخلة:
تتمثل أهم حسابات القوى السياسية المؤثرة في الوقت الحالي فيما يلي:
1- الحراك الشعبي: على الرغم من أن الاستقالة أتت تلبية لأحد مطالب المحتجين الأساسية ونتيجة للضغوط التي مارسوها؛ إلا أن الحراك الشعبي سيواجه صعوبة في إقصاء كافة القيادات السياسية من دوائر صنع القرار، والاستعاضة عنهم بحكومة تكنوقراط، والدفع نحو إجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولا سيما مع قيام فريق من السلطة بالتضييق أكثر على الحراك، ففي صباح اليوم التالي للاستقالة تم فتح أغلب الطرق المغلقة التي كانت تشكل مراكز حيوية للاعتصامات مثل نقطتي "جل الديب" و"ذوق مصبح" وإزالة خيام المعتصمين. ويميل فريق من المحتجين إلى إعطاء فرصة إلى حين تشكيل حكومة جديدة للحكم والتقرير بناء عليها العودة إلى الشارع أو لا. فيما يرى قسم ثانٍ ضرورةَ الاستمرار في الشارع لأنه لا يمكن الاعتماد على الساسة الحاليين، كما أن الشارع هو الوسيلة الوحيدة للقيام بالضغط لافتقار الحراك لنواب داخل البرلمان الحالي، بالإضافة إلى أن عدم استمرار الاحتجاج في الشارع ربما قد يُغري السلطة بإظهار أن الأمور عادت إلى طبيعتها للخارج وللمجتمع الدولي.
2- التيار الوطني الحر: ربما سيحاول التيار الوطني الحر المحافظة على مكتسباته في السلطة التي وصلت إلى حدودها القصوى مع إبرام التسوية الرئاسية مع زعيم تيار المستقبل عام 2016 التي سمحت بإيصال الرئيس "عون" إلى سدة الرئاسة، وبالتالي فمن المرجح أن يرفض أي طرح إصلاحي من شأنه أن يقلص من هذه المكاسب، كما أنه سيعمل على منع تمدد الارتدادات التي أصابت بيته الداخلي من جراء الحراك الشعبي، كالحد من تأثير خروج بعض النواب المؤثرين من كتلته النيابية، كالنواب "نعمة فرام" و"شامل روكز" و"تمايز ميشال معوض"، بالإضافة إلى محاولة حماية الوزير "باسيل" من محاولة العزل السياسي التي يقوم بها خصومه، كما سيعمد إلى صرف النظر عن اختلال شعبيته في الشارع المسيحي.
3- حزب الله: على الرغم من اعتبار استقالة "الحريري" تحديًا لقرار حزب الله؛ إلا أن الحزب لا يمكنه إغفال حجم الغطاء العربي والدولي الذي كان يؤمّنه وجود شخصية مثل "سعد الحريري" على رأس الحكومة اللبنانية، خصوصًا في الوقت الذي يعاني فيه حزب الله من تصاعد الحصار الاقتصادي عليه، وتزايد العقوبات الأمريكية، بالإضافة الى أن الوضع الاقتصادي الحرج الذي يعاني منه لبنان قد لا يدفع حزب الله إلى السير بحكومة قد تكون محسوبة عليه كلية لتجنب تحميله مسئولية الانهيار الاقتصادي في حال استمر تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية.
4- تيار المستقبل: سيحاول تيار المستقبل الاستفادة من حاجة أطراف الثامن من مارس لاستمرار التحالف معه ومن إرضائه للشارع عبر الاستقالة المقدمة من رئيسه لمحاولة إيجاد مخرج للوضع المتأجج شعبيًّا والمتدهور اقتصاديًّا.
سيناريوهات ما بعد الاستقالة:
ستستمر الحكومة المستقيلة في تصريف الأعمال لفترة قد تطول نسبيًّا إلى حين الانتهاء من الاتفاق على صيغة حكومية جديدة تعكس التوازنات والمطالب المستجدة على الأرض. وستُحدد الاستشارات النيابية الملزمة التي سيقوم بها رئيس الجمهورية خلال الأيام القليلة المقبلة تسميةَ رئيسها، حيث من الممكن أن تتخذ الأشكال التالية:
1- حكومة تكنوقراط: والمقصود بهذا المصطلح حكومة مؤلَّفة من وجوه مستقلة ومتخصصة لا تتبع سياسيًّا لأي من الأحزاب الحالية. ويصطدم هذا الطرح بتمسك رئيس الجمهورية برئيس التيار الوطني الحر "جبران باسيل".
2- حكومة سياسية بداخلها تكنوقراط: وهو حل قد لا يرضي الشارع كلية، إلا أنه سيمثل حلًّا وسطًا بين السلطة والقوى الاحتجاجية، حيث يتم تسليم الحقائب الوزارية التقنية في الحكومة إلى التكنوقراط كوزارة الطاقة والاتصالات والبيئة والاقتصاد، فيما يتم منح الحقائب السياسية ووزراء الدولة بلا حقائب للأحزاب السياسية.
3- حكومة التوجه الواحد: حيث قد تؤدي حسابات حزب الله الإقليمية والداخلية إلى فرض حكومة ذات توجه واحد، خصوصًا أنه يمتلك أغلبية نيابية طفيفة لمنح مثل هذه الحكومة الثقة في البرلمان مع حلفائه في حركة أمل والتيار الوطني الحر؛ إلا أن هذا الطرح يواجه عدة صعوبات، أولها احتمالية إقصاء قوى موازنة خارج التركبية الحكومية، حيث إن عدم تمثيل أحزاب لها حضور شعبي واسع كتيار المستقبل والقوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي قد يمسّ مصداقية الحكومة، كما أن حزب الله قد عبر مرارًا عن أن شكل الحكومة المقبولة لديه هي حكومات الوحدة الوطنية.